أثر الأعلاف الصناعية في طهارة الحيوانات وحلها
الدكتور/ محمد فالح مطلق بني صالح
المبحث الثالث : حكم أكل لحوم دجاج المزارع وحيواناتها
على ضوء ما تقدم بيانه لمرجعية التحليل والتحريم للأطعمة في المنظور الفقهي ، وبناء على إمكان الانتفاع بالنجاسات في وجوه كثيرة ، ومنها تصنيعها وتقديمها للحيوانات المأكولة من خلال الخلطات العلفية ، يبدو أن نتيجة البحث تتجه إلى القول بطهارة لحوم دجاج المزارع وحيواناتها التي تعتاش على أنواع كثيرة من الأعلاف المختلطة ·
ويمكن الاستدلال لهذه النتيجة بالمنقول والمعقول على النحو التالي :
أولاً : من المنقول ·
1- ما عنون له البخاري رضي الله عنه بقوله “باب لحم الدجاج” ·
أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجاً” (64)·
ووجه الدلالة من ذلك : أنه صلى الله عليه وسلم لا يأكل إلا طيباً ولا يقرب طعاماً فيه كراهة ، فقد امتنع عن أكل طعام أبي أيوب الأنصاري لأن طعامه فيه بصل، ولا تناسب رائحته مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام ، كما أنه صلى الله عليه وسلم توقف عن أكل الضب وعافته نفسه ، وأكله خالد بن الوليد رضي الله عنه بحضرته صلى الله عليه وسلم ، فدل على أنه لا يأكل شيئاً محرماً أو مكروهاً ·
وبناء على ذلك ، فأكله صلى الله عليه وسلم للدجاج يدل على إباحته وعدم حرمته أو كراهته ·
2- حديث أيوب بن أبي تميمة عن القاسم بن زهدم قال: كنا عند أبي موسى الأشعري ، وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء ، فأتي بطعام فيه لحم دجاج وفي القوم رجل جالس أحمر ، فلم يدن من طعامه فقال: ادن فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه (65)، وفي رواية لزهدم قال: رأيت أبا موسى يأكل الدجاج فدعاني فقلت إني رأيته يأكل نتناً قال: أدنه فكل (66)·
ومعلوم أن دجاج ذلك الزمان كان يلتقط النجاسة ويعتاش عليها ، وبناء على ما تقدم فقد ذكر صاحب المجموع أن الفقهاء لم يروا في حل الدجاج خلافاً يذكر (67)·
3- القاعدة الشرعية في الدلالة المستمرة : أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة (68)·
وهذا يعني بقاء الحكم على الحال التي كان عليها الشيء من قبل حتى يقوم دليل على تغير ذلك الحكم ، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتاً في الماضي باقياً في الحال حتى يقوم دليل على تغيره ·
فإذا سئل المجتهد عن حكم حيوان أو طعام أو شراب ولم يجد دليلاً شرعياً على حكمه ، حكم بإباحته ، لأن الإباحة هي الأصل ما لم يقم دليل على خلافها (69)·
فالدجاج باق على إباحته الأصلية لو لم يكن هناك نص بالإباحة ، فكيف وقد ثبتت إباحته بالأدلة الشرعية ، حيث إنه لا حكم للأشياء عند أهل السنة إلا للشرع ، فهو المرجع الأساس في التحليل والتحريم لقوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه ····(70) الآية ·
وهذا يؤذن بأن الوحي هو صاحب القرار في التشريع بعد البعثة وليس هو العقل بتحسينه للأشياء أو تقبيحه لها (71)·
وهذه هي القاعدة التي نحن بصددها مبنية على نصوص كثيرة منها :
قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعاً(72)· ووجه الدلالة من الآية: أن (ما) عامة في كل شيء ، واللام في قوله (لكم) ، تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع، فتكون الآية دالة على أن الانتفاع بجميع الأشياء التي لم يقم دليل على منعها بخصوصها مأذون فيه – أي مباح – لأن اللام هي مناط الاستدلال للإباحة (73)، وهذه الإباحة تشعر بالامتنان ، ولا تكون المنة إلا بما ينفع ·
ومنها قوله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (74)· ووجه الدلالة من ذلك : أن الاستفهام إنكاري وليس حقيقياً ، وهو بذلك يستنكر تحريم الزينة والطيبات ، وهذا يعني إباحتها وهو المطلوب (75)·
ومنها قوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به (76)·
ووجه الدلالة من ذلك: أن الله جل جلاله قال: قل يا محمد للذين يحرمون من عند أنفسهم ، لا أجد من المطعومات شيئاً محرماً غير هذه الأصناف الأربعة ، فيكون ما عداها مباحاً ما لم يقم دليل التحريم على غيرها ، كالمنخنقة والموقوذة وغيرها ، وبذا يكون الدجاج داخلاً في الحل فيما عدا المستثنيات الأربعة في الآية الكريمة ·
ثانياً : من المعقول :
ومن الأدلة العقلية على حل دجاج المزارع وحيواناتها ما يلي :
1- إن نسبة المركبات النجسة إلى مجموع الخلطة العلفية التي تقدم للحيوانات أو الدجاج لا تزيد على عشرة من مائة 10% ، وهي نسبة قليلة لا تأخذ حكم الأغلبية، وقد بينت الدراسات التي تقدم ذكرها ، أن الأعلاف البروتينية ، كالمساحيق والدم والعظام والحوافر وغيرها ، تساوي ستة وثلاثين ألف طن (36000) طن من مجموع كمية المواد الأخرى من ذرة صفراء ، وقول ، ونخالة ، والتي تبلغ ثمانين وثلاثمائة ألف طن (380000) طن تستهلكه مزارع الدواجن في الأردن سنوياً ·
2- إن الأعلاف التي تحتوي على مركبات الدم والعظم والحوافر ، والتي لا تزيد نسبتها عن 10% من المركبات البروتينية ، تعالج بطحنها وطبخها على درجة حرارة عالية ، تبلغ ثمانين ومائة 180 درجة ، حتى لا يبقى أثر للمكروبات الضارة فيها ، ثم تجفف وتعالج بالوسائل العلمية المتطورة ·
وهذه المعالجات العلمية المتطورة ، تحول المواد النجسة إلى أعلاف طاهرة ، حيث إن الاستحالة تغير اسم الشيء ووصفه وماهيته ، إلى اسم جديد وتركيبة جديدة، ويستتبع ذلك كله ، تغير الحكم القديم إلى حكم جديد وهذه هي الاستحالة التي تؤثر في تحويل النجاسات إلى طاهرات عند كثير من الفقهاء الذين رجحت الأدلة مذهبهم كما تقدم ·
فأدلة تحريم السرجين لنجاسته لا تتناول الثمار التي تغذت بها ، والنصوص التي تحرم الميتة لا تتناول الملح الذي وقعت فيه وصارت منه ، والأدلة التي تحرم ألبان الأتان لا تتناول السخلة التي رضعت من لبنها ، لا لفظاً ولا معنى ولا نصاً ولا قياساً·
3- إن إباحة دجاج المزارع وحيواناتها تقاس على إباحة لحم الضبع ، فإن غالب عيشه يكون على ما يصطاده من الحيوانات أو يجده من الميتات ، وهو مع ذلك مباح الأكل عند كل من الشافعية والحنابلة وغيرهم (77)، مستندين في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الضبع صيد يؤكل وفيه كبش إذا صاده المحرم)(78) وما ورد عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله: “إن الناس كانوا يأكلونه ويبيعونه بين الصفا والمروة” (79)·
4- إن إباحة دجاج المزارع تقاس على إباحة لحم الحيوانات الجلالة ، فهي حيوانات مباحة في أصلها ، لكنها تتغذى غالب أوقاتها على القاذورات التي هي فضلات الحيوانات من آدميين وغيرهم ، وأقصى ما يمكن أن يقال فيها الكراهة ، خلافاً لبعض الحنابلة ومن تبعهم ممن قال بحرمتها ، ولما كانت الجلالة تعتبر أصلاً في أحكامها لدجاج المزارع وحيواناتها ، فإنه من المناسب أن نتناولها بشيء من التفصيل لبيان ما يلي :
معناها لغة واصطلاحاً وآراء الفقهاء وأدلتهم وسبب اختلافهم في حكمها ·
الجلالة :
الجلالة لغة : على وزن فعالة بالتشديد نسبة إلى الجلة التي هي البعر ونحوه، أي: فضلة الحيوانات ، وهي النجسة ·
والجلالة : هي البقر أو الضأن أو الدجاج الذي يأكل الجلة (80)·
يقال: أكلت الدابة الجلة وأجلتها ، فهي جالة وجلالة (81)·
والجلالة اصطلاحاً عند الحنفية : اسم يطلق على الدابة التي تعتمد أكل الجيف فقط ، فيتغير لحمها ويكون منتناً (82)، أو : هي التي أغلب أكلها النجاسات (83)·
وعند المالكية : هي التي تأكل النجاسة (82)، وخصّها بعضهم بأنها ذوات الحواصل من الطير التي تأكل الجيف (83)·
وعند الشافعية : كل ما يأكل العذرة ، والنجاسات تكون من الإبل والبقر والغنم والدجاج ·
وقيل إن كانت النجاسة أكثر أكلها فهي الجلالة ، وإن كان الطاهر أكثر فليست جلالة (84)·
وقال آخرون : هي ما يأكل العذرة مطلقاً (85)، ويلحق بالجلالة ما لو ارتضعت سخلة بلبن كلبة ففيها وجهان ، أصحهما يحل أكل لحمها (86)·
وعند الحنابلة : هي التي علفها النجاسة (87)· أو هي التي تأكل القذر (88)·
ومن خلال التعريفات المتقدمة ، نرى أنها تدور حول معنى واحد ، وهو أن الجلالة حيوان مأكول يتغذى بالنجاسة ، إلا أن الحنفية والحنابلة ، خصوه بما يكون أكثر أكله النجاسة ، لا مطلق التغذي بنجاسة ·
الحكم الشرعي للجلالة : اختلفت آراء الفقهاء في حكمها الشرعي على النحو التالي:
1- ذهب كل من الحنفية والنووي من الشافعية ورواية عند الحنابلة إلى القول بكراهة أكلها مهما كان نوعها (89)·
2- وذهب المالكية : إلى إباحة الجلالة ، لا فرق بين إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ وطيرٍ (90)·
3- وذهب الحنابلة في أصح الروايتين وبعض الشافعية وابن حزم ، إلى القول بحرمتها ، واستثنى ابن حزم الطيور كالدجاج وإن أكل العذرة (91)·
سبب الاختلاف في حكم الجلالة :
ذكر ابن رشد أن سبب اختلاف الفقهاء في حكم الجلالة هو معارضة القياس للأثر (92)·
أما الأثر: فهو ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة”(93)، وفي رواية نهى عن ركوب الجلالة (94)·
وما رواه ابن عمر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها” (95)·
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها (96)· وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحومها” (97)·
وأما القياس المعارض لهذا ؛ فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان · فمن أخذ بظاهر النهي المقتضي للتحريم كالحنابلة ومن معهم قال بحرمة لحوم الجلالة ، وعللوا ذلك بأن اللحم يتولد من النجاسة فيكون نجساً كرماد النجاسة بعد حرقها (98)·
ومن حمل النهي على الكراهية التنزيهية كالحنفية والشافعية ، قال بالكراهة، وعلل الشافعية ذلك بقولهم: إن ما تأكله الدابة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها ، ولا يكون غذاؤها إلا النجاسة ، ولا يؤثر ذلك في إباحة لحمها ولبنها وبيضها ، ولأن النجاسة التي تأكلها ، تنزل في مجاري الطعام ولا تخالط اللحم، وإنما ينتشي اللحم بها ، وذلك لا يوجب التحريم (99)·
وعلل الحنفية رأيهم ، بأن النهي محمول على أنها أنتنت فتغير لحمها فيمنع من استعمالها حتى لا يتأذى الناس بنتنها(100)·
وأما المالكية ومن معهم ، فقد اعتمدوا القياس ، حيث جعلوا حكم الأعلاف المنقلبة إلى لحم ، كحكم انقلاب الدم وتحوله إلى لحم ، فكل ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وأجزائه ، فلو انقلب إلى التراب كان حلالاً ، فكذا عندما ينقلب إلى لحم يكون حلالاً (101)، لأن الأصل في المطعومات الإباحة ·
علة النهي عن أكل الجلالة :
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن علة النهي في الحديث الشريف هي النجس ، فإذا كان غالب أكلها النجاسات فإن لحمها يتغير وينتن ، ولذلك يكره ركوبها في الحج، وأن ينتفع بها ونحو ذلك ، تجنباً لإيذاء الناس بروائحها ، بخلاف الدجاج المخلى، فإنه لا يكره لأنه لا ينتن ، أو لأنه يخلط مع النجاسة الحب وغيره ، فلا تكون النجاسة هي الغالبة (102)·
وذهب الشافعية في قول ، إلى مثل ما قاله الحنفية ، وقيل إن الكثرة ليست هي الضابط ، بل مجرد أكلها العذرة والنجاسة ·
والراجح في مذهب الشافعية ، أن العبرة بتغير لحمها ونتنه (103)، لأن روائح العذرة توجد في عرقها ، ولأن لحومها تتغذى بها فتقلبها ، فالنهي عندهم يحمل على الكراهة التنزيهية ، فلا يحرم لحمها ولا لبنها ولا بيضها ، فلو ارتضع جدي من كلبة وربي على لبنها ، فالأصح أنه يأخذ حكم الجلالة فيحل أكل لحمه (104) لأن لحمه لا ينتن ، فدل ذلك على أن النهي للتغير لا لغيره ·
ضابط زوال النهي :
إذا تقرر أن علة النهي هي النتن والتغير ، فإن ذلك النهي يزول بزوال تلك العلة، سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة ، لأن النهي ليس لمعنى يرجع إلى ذاتها ، بل لعارض جاورها ، فإذا زال العارض ، زال النهي ·
وبالرجوع إلى آراء الفقهاء ، نجدهم متفقين على أن النهي يزول إذا حبست الجلالة على علف طاهر مدة ما ، لكنهم اختلفوا في تقدير تلك المدة على النحو التالي:
ذهب الحنفية : إلى أنه لا يوقف في حبسها على مدة معينة ، بل يكفي في حبسها مدة يطيب معها لحمها ، وفي رواية عندهم ، أنها تحبس ثلاثة أيام فقط (105)·
وذهب الشافعية: إلى مثل قول الحنفية ، ولا يكفي زوال الرائحة بالغسل بعد الذبح ولا بالطبخ ، بل تحبس على علف طاهر حتى تزول الرائحة (106)·
وفي قول: تعلف الجلالة علفاً طاهراً إن كانت ناقة أربعين يوماً ، وأن كانت شاة سبعة أيام ، وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام (107)·
وعند الحنابلة: تحبس ثلاثاً سواء كانت طائراً أو بهيمة ، وفي رواية ، تحبس الدجاجة ثلاثاً ، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين ، لأنه أكبر جسماً وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير (108)·
الترجيح :
من خلال استطلاع آراء الفقهاء ومنشأ الخلاف عندهم ، يظهر أن ما ذهب إليه جمهور الحنفية والشافعية من القول بكراهة لحوم الجلالة هو الأقرب لمقاصد الشريعة ، لأن القول بالتحريم على إطلاقه فيه تحريم ما أحل الله أكله ، ولا يصار إلى التحريم إلا بدليل صحيح وليس من ذلك ما نحن فيه ·
كما أن القول بالإباحة المطلقة ، فيه إهمال لأحاديث النهي التي يتقوى مرسلها بمسندها ·
أما القول بالكراهة التنزيهية ، فهو إعمال لما ورد من الأحاديث ، خصوصاً إذا علمنا العلة من النهي كما تقدم ، وبهذا يظهر أن أكل لحوم الحيوانات التي تدخل النجاسة في غذائها حلال ما لم تكن النجاسة هي الأغلب أو الخالصة ، وما لم يثبت فيها ضرر صحي مؤكد ·